ترأّس راعي أبرشيّة بيروت للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده قدّاس الأحد في كنيسة القدّيس نيقولاوس- الأشرفيّة.
وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها:
“عيّدت كنيستنا المقدّسة في العاشر من تشرين الثّاني لتذكار الرّسول كوارتس أوّل أساقفة بيروت وشفيع أبرشيّتنا. هو أحد الرّسل السّبعين الّذين عيّنهم الرّبّ يسوع وأرسلهم إثنين إثنين لينقلوا البشارة إلى أقطار المسكونة (لو 10: 1-2). لا نعرف عنه سوى أنّه كان من مدينة كورنثوس الّتي بشّرها بولس الرّسول وقد ذكره في رسالته إلى أهل رومية: “يسلّم عليكم أراستس خازن المدينة وكوارتس…” (16: 23). أقامه الرّسل راعيًا لكنيسة بيروت ليبشّر فيها ويسوس الكنيسة، وقد قاسى الكثير لأجل البشارة. نرتّل له في صلاة المساء: “أيّها الرّسول اللّابس المسيح كوارتس، المبشّر اللّامع للإنجيل، والمماثل الحقيقيّ لبولس الهامة، إحفظ كنيسة بيروت، هذه الّتي أنشأتها أوّلاً كبناء حكيم، معلنةً الحقيقة ومفرعةً أغصانًا جيّدة، حتّى تقدّس المؤمنين بالرّبّ وتمجّد في كلّ حين بإكرام تذكارك الإلهيّ”.
أحبّائي، سأل ناموسيّ الرّبّ يسوع: “ماذا أعمل لأرث الحياة الأبديّة” فشاء يسوع أن يعلّمنا، بجوابه، مفهوم القرابة الحقيقيّ، عبر مثل جمع فيه الأضداد. أعطانا مثل السّامريّ الشّفوق، وأظهر لنا كيف قدّم السّامريّ، الذي يعتبره اليهود عدوًّا، يد المعونة ليهوديّ، وكيف فضّل مسؤولو اليهود الدّينيّون، المفترض أن يكونوا ممتلئين محبّةً ورحمةً، تقديم الذّبيحة على مساعدة جريح، ناقضين بذلك قول الرّبّ: “أريد رحمةً لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من محرقات” (هو 6: 6).
النّاموسيّ مختصّ بالنّاموس، أيّ بالتّوراة الّتي هي الكتب الخمسة الأولى من الكتاب المقدّس، فيما اختصاص الكتبة الكتاب كلّه. يقول الرّبّ: “سمعتم أنّه قيل: تحبّ قريبك وتبغض عدوّك” (مت 5: 43). محبّة القريب هي من النّاموس الإلهيّ، أمّا كراهيّة العدوّ فهي من تعاليم الكتبة، لذلك لم يشأ الرّبّ أن ينقض النّاموس بل أن يصوّب التّفسير الخاطئ له.
النّاموسيّ جاء مجرّبًا الرّبّ يسوع، أيّ لم يكن ذا نيّة صافية، وربّما كان ينتظر من الرّبّ أن ينقضّ على النّاموس مهاجمًا، لأنّه ربّما لم يسمع قول الرّبّ: “لا تظنّوا أنّي جئت لأنقض النّاموس والأنبياء، ما جئت لأنقض بل لأكمّل” (مت 5: 17).
فعل “جرّب” يرتبط عادةً بعمل الشّيطان الّذي يجرّب البشر ليوقعهم، أمّا الرّبّ فلا يجرّب خليقته بل يسمح أن يمرّوا في امتحانات يثبتون إيمانهم من خلالها. لهذا علّمنا الرّبّ يسوع أن نصلّي: “ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجّنا من الشّرّير”، حيث نطلب من الرّبّ أن يهزم الشّيطان المتربّص بنا ليوقعنا في تجاربه.
واجه الرّبّ سؤال النّاموسيّ بامتحان فسأله: “كيف تقرأ؟”. لو كان النّاموسيّ يقرأ بروح الصّلاة لطلب أن يفهم كلمات الله، ولكان الرّوح القدس أرشده إلى أنّ المسيح هو واضع النّاموس وأنّه هو من تنبّأ عنه الأنبياء.
حديث النّاموسيّ عن محبّة الله والنّاس كان نظريًّا لأنّه عاجز عن عيش المحبّة الّتي هي من ثمار الرّوح القدس. لو كان الرّوح القدس فيه لما جرّب المسيح، ولكان فهم النّاموس بالشّكل الصّحيح.
إجابة المسيح عن السّؤال الأوّل أحرجت النّاموسيّ أمام النّاس فأراد تبرير نفسه، لذا طرح سؤالًا ثانيًا: “من هو قريبي؟”. في الإجابتين لا نرى المسيح ينتفض ولا ينقضّ على النّاموس، لكنّه يجيب بوداعة ومحبّة، بغية تعليم السّائل كيف تكون المحبّة الحقيقيّة. لو غضب المسيح ثمّ أعطى مثل السّامريّ الشّفوق لما وصلت العبرة من المثل إلى قلوب السّامعين، بل لأصبح المسيح منظّرًا كالنّاموسيّ، يعلّم أمرًا دون أن يطبّقه. علينا أن ننتبه إلى أنّ كلّ ما يفعله الرّبّ هو لتعليمنا كيف نكون أبناءً حقيقيّين للآب السّماويّ، لذلك كان يطبّق تعاليمه أمام الجموع لكي يحثّهم على أن يفعلوا مثله.
ليست مصادفةً أن يختار النّاموسيّ الآية: “أحبب الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ قدرتك ومن كلّ ذهنك، وقريبك كنّفسك”، فالقلب هو مركز الشّعور والقرار والعواطف والكيان، لهذا يطلب الرّبّ من كلّ منّا قائلًا: “يا بنيّ أعطني قلبك” (أم 23: 26)، أيّ يطلب منّا أن نكون له بكلّيّتنا، لأنّ القلب لا ينقسم بين إثنين، وهذا كان واضحًا في تعاليم الرّبّ دومًا، أيّ لا يمكن للإنسان أن يحبّ الله والمال مثلًا، فمحبّة الله لا تجتمع مع محبّة أخرى، إلّا محبّة الإنسان الآخر، كونه مخلوقًا على صورة الله ومثاله. أمّا النّفس فهي مركز العواطف والغرائز والشّهوات، والإنسان الرّوحانيّ يشتهي الحياة مع الله، لذلك يقول إشعياء النّبيّ: “إلى اسمك وإلى ذكرك شهوة النّفس، بنفسي اشتهيتك في اللّيل” (26: 8-9)، كما يقول الرّسول بولس: “لي شهوة أن أنطلق وأكون مع المسيح” (في 1: 23). إذًا، القلب يقرّر اختيار الله، والنّفس تشتهيه، ثمّ يأتي دور القدرة، أيّ الإرادة، لتحقيق ذلك عبر فهم الكتاب والصّلاة والتّوبة والمحبّة. كلّ هذا لا يتمّ إذا انشغل الفكر بأمور هذا العالم، لذا علينا أن نحبّ الله بكلّ فكرنا فعلاً لا قولاً، وأن نحبّ القريب كالنّفس.
يا أحبّة، محبّة الله ومحبّة القريب هما أعظم الوصايا الّتي منحها الله لشعبه، أيّ للّذين يعتنقون تعاليمه ويعملون بوصاياه. هذه المحبّة يفتقدها عالمنا وإلّا كيف نفسّر الجرائم والحروب وقتل الأطفال والمدنيّين؟ كيف نفسّر المجاعات المفروضة على بعض الشّعوب بسبب نهب خيرات أرضهم؟ كيف نفسّر الحقد والقتل والتّدمير الّذي تعيشه منطقتنا منذ أكثر من شهر ولم نشهد إرادةً حقيقيّةً لوقف المجزرة. أيّ نصر هو ذاك المبنيّ على جثث الأطفال؟ وكأنّ الخوف من الأطفال ما زال قائمًا منذ فجر المسيحيّة عندما قتل هيرودس الملك أربعة عشر ألف طفل في بيت لحم، علّ يسوع يكون بينهم فيتخلّص منه، وما زال الحكّام الجدد يقتلون الأطفال، وما زالت أمّهات الأطفال الثّكالى يبكين كراحيل “لأنّ أولادهنّ ليسوا بموجودين” (متّى 2: 18). وأيّ فخر في قتل مدنيّين أبرياء؟ وهل منع الماء والطّعام عنهم بطولة؟ وما النّفع من حرب عبثيّة مدمّرة لا تؤدّي إلّا إلى مزيد من الحقد والقتل؟ أمّا حكّام العالم الّذين يهرعون لنصرة قاتلي الأطفال، وبينهم فتيات ثلاث من لبنان في عمر الورود، ألا يخجلون من ضميرهم ومن تاريخ بلادهم ومن الشّعارات الّتي يرفعونها دفاعًا عن حقوق الإنسان؟ أين القيم الإنسانيّة؟ أين العدل؟ الشّجاعة ليست في شنّ حرب مدمّرة أو في نصرتها بل في إيجاد حلّ عادل للمشكلة كي يعمّ السّلام.
أمّا عندنا في لبنان، فقد مضت سنة على شغور موقع الرّئاسة وغيرها من المواقع الأساسيّة، وكأنّ لا شيء غريب أو ناقص، وكأنّ الحياة أصبحت مقتصرةً على اللّهاث وراء الحدّ الأدنى من مقوّمات العيش. لبنان الّذي كان رائدًا بدوره وديموقراطيّته ودبلوماسيّته يغيب عن الدّور والموقف في هذه الظّروف المصيريّة. اللّحظات الحاسمة من التّاريخ تتطلّب مواقف استثنائيّةً وشجاعة، ونحن في منطقة مشتعلة قد يصل لهيبها إلينا، فهل من ظرف أخطر ممّا نحن فيه كي يحزم المعنيّون أمرهم وينتخبوا رئيسًا للبلاد تبدأ معه مسيرة تكوين الدّولة وتحصينها، ومنع المغامرة بلبنان مع رفضنا الصّارخ للظّلم ووقوفنا الدّائم إلى جانب الحقّ، ومعه يبدأ دور للبنان نتمنّاه رياديًّا.
أملنا أن ينظر الرّبّ الإله بعين الرّأفة على هذه المنطقة وعلى بلدنا، وينشر سلامه في العالم كلّه، وأن يتعقّل المسؤولون عندنا ويضعوا مصلحة لبنان في الطّليعة، ويجنّبوه أيّة مصيبة قد تلحق به. ودعوتنا أن نقرأ الكتاب المقدّس، ونحفظ وصايا الرّبّ، وألّا نكون حرفيّين في حفظنا، بل أن تكون لنا أثمار محبّة تليق بنا كأبناء حقيقيّين لله الّذي هو المحبّة، آمين.”