من المعلوم، تاريخيًّا، أن مسيحيّي الشرق كانوا أقدم الكارزين برسالة يسوع، وفي مقدّمهم مسيحيّو جبل لبنان المتجذّرون في قممه، حيث نمت الكنيسة الأولى. وبين المسيحيّين، أولئك، أتباع القديس مارون، أو تلامذته، ونعني بذلك الموارنة، الذين لم يأخذوا الإيمان المسيحي الى أفق مشوّش، فكانت علاقتهم مع الله، به، علاقة تكامل تقوم على منظومة من القيم، والمبادئ، سلموا بها وصولاً الى إجابات حول أسرار الوجود. وبذلك، كان إيمان الموارنة هؤلاء، أكثر نقاء، وعمقًا، ورسوخًا في النّفس والعقل، بحيث لا يترك مجال للشكّ في مشروعيّة وجود الله، أو في مخزون تعاليم المسيح.
كان الموارنة، على مرّ الزمن، رأس رمح في الدّفاع عن المسيحيّة التي اعتبروها تختصر التجربة الإلهيّة في الكون، لإعادة الإنسان، بالمسيح، الى ينبوعه الأصفى. من هنا، وعوا البعد الإنساني الرّاقي للمسيحيّة، فأدّوا دورًا رياديًّا في المساهمة بصياغة حيثيّة محوريّة، للتآلف الحضاريّ والتمدّنيّ، حيث كانوا، ما صبغ مجموعتهم الاثنيّة بموقف دائم، داعم لهويّتهم الانفتاحيّة، المؤمنة بالنّسيج الإنسانيّ، بعيدًا عن الفوارق العرقيّة، والمذهبيّة، وذلك لأنهم يعتبرون أنّ البشريّة تنضوي تحت لواء حزب عموميّ، هو حزب الإنسانيّة، ينتمي إليه الجميع، بدون استثناءات، فلا طبقيّة، ولا سلوكًا تقسيميًّا للناس على أساس الدّين، واللّون، واللّغة، وغير ذلك…
لقد نشط كثيرون، وما زالوا، الى ترويج أنّ الموارنة حالة انعزاليّة متقوقعة، لكنّ سلوك المارونيّة أثبت، تمامًا، أنهم أكثر الشرائح قدرةً على الاندماج، والعيش مع سواهم من المكوّنات الثقافيّة، والدينيّة، على الرغم ممّا انْتهج، بحقّهم، من مخططات مشبوهة لتذويبهم، ومن تحدّيات مغرضة لتحجيمهم، ومن أداءات استبداديّة استقصدت مصيرهم. غير أنّ همتهم في الصّمود، والفداء، ولو مخضّبين بدمائهم، حالت دون نجاح إحكام قبضة القهر على وجودهم، ومؤامرة إفراغ لبنان منهم الى دول الشتات، وكأنّهم ما كانوا.
لقد كان للموارنة، في لبنان، النسق الفاعل لبناء كيان سياسيّ لم يكرّسوه مسيحيًّا إقصائيًّا، بقدر ما أعلنوه نموذجًا يحتذى لعيش فريد يسقط العنصريّة، والأحاديّة، والفوقيّة العرقيّة والدينيّة. من هنا، كان لبنان حدثًا ساطعًا، في الشّرق، ووطنًا أسس لديمقراطيّة تكفل الحريّات والحقوق، هذه التي افتداها الموارنة بشلّال من رجالهم، ليبقى للكرامة الوطنيّة، والإنسانيّة، في هذا الأوقيانوس، موطأٌ. لقد قدّم الموارنة صيغة كيانيّة ترسّخ التعدّدية، وتجمع بين القواسم، وهي صيغة أكثر نضجًا لتنسيج التّعاقد المواطنيّ الذي يتبلور بمشاركة الجميع في الشّأن العام، ما يقود الى اعتبارها رائدًا لاستراتيجية الدّمج حيث لا مزاحم للرابطة الوطنيّة.
بالرّغم من الظّروف القاسية التي توالت على الموارنة، لم يكفّ هؤلاء عن الدّعوة الى مبدأ الانتماء، والولاء، فالوطن ليس ثوبًا مستعارًا، لذا، لم يرضوا أن يكون مرتعًا لإعصار الشياطين، إنه نعمة وكرامة، وهو، بالنسبة إليهم، أحلى من الجنّة. لقد استمد الموارنة من قدّيسهم المؤسّس روحًا جهاديّةً، ولصالح غيرهم أيضًا، ففي القرون السّالفة، لم يقاربوا مفهوم الوطن بشكل أنانيّ، ولم يبتعدوا عن منظومة القيم في الحريّة، والحقّ، والشّركة، والمحبّة، لئلّا يتقنّع الوطن بالشّقوة، والظّلم، وذيوع الشّرور. وقد أثبتوا أنّهم عضد الثّقة في لبنان، لأنّ بينهم وبين الوطن ولع لم يأت عفوًا، صانوه بسلوكيّات تنصره، فلم يغمضوا جفنًا عن أيّ إساءة تساق لتفكيك كيانه، وقمع الحريّة فيه، وضرب نظامه، وتبديل هويّته.
إنّ التحاور بين شركاء الوطن، ما كان ليولد لو لم يكن الموارنة والحضور المارونيّ موجودًا، فاعلاً، منفتحًا، ومنخرطًا في همّ مجتمعه الوطنيّ، ولم يكنْ وجودًا تراكميًّا، بل مبادرًا الى فتح كوّة العبور الى الحرية، والديمقراطيّة، والحقّ بالعيش الكريم، وهي قيم ما كانت لتطرح لولا الأبوّة المارونيّة لها. لكنّ الجهل بحقيقة الأديان والأنانيّات المنحرفة، أجهضت النّهج الانفتاحي الحضاري للموارنة، وتمترست وراء خطاب تكفيريّ، متعصّب، عمّق هوّة القلق ودفع الى التّجييش الغريزيّ، فنشأ الخوف على رماد حوار الحضارات.
إنّ الحارس الماروني الأقوى لشرعيّة وجود لبنان، والمتشبّث بالحريّة، كما ورد في كتاب “رحلاتٌ الى سوريّا ومصر” للمستشرق الفرنسيّ “فولني”، حلق أداؤه مع قضايا الوطن التزامًا أدّى به الى دفع فاتورة باهظة بنودها سلامته وأمنه ومستقبل أجياله. لكنّه، مع ذلك، وقف صامدًا في وجه مؤامرة القضاء على الوطن، وصموده لم يكنْ وهْمًا، بل نضالاً مأثورًا، قوامه العنفوان، للعبور بلبنان الى برّ السّلامة، والتّعافي، وتأسيس كيان لا يتنازل عن مثله.
منقول عن الدكتور جورج شبلي