إن كلمة “المسيحية” كلمة مهمّة، لكنها، على أهميّتها، كلمة مشتقة. فأصل هذه الكلمة هو بالطبع يسوع المسيح. فإذا سألنا مثلاً المسيحيّة: هل تلائم العالم الحديث، هل تلائم العصر؟ فنعني بذلك حرفيًا: يسوع المسيح: هل يلائم العالم الحديث، هل يلائم العصر…؟ والجواب، نعم لأن المسيح هو الرب وهو أزلي أبدي وُلد كمخلص وليس كواضع شريعة، وصعد الى السماء تاركاً مفهومًا خاصًا للألوهية والحياة لا نظام حياة وضعي. وأكبر مثالٍ على أن المسيحية غير مقيّدة بزمن، موافقة البابا فرنسيس على اعلان قداسة الطوباوي كارلو اكوتيس.
إن يسوع المسيح لم يؤسّس “نظامًا” اسمه المسيحيّة. يسوع المسيح لم يضع تشريعًا مفصلاً أو تعاليم محددة لكل ظرف من ظروف الحياة، كما وضع موسى ومحمد، وكما تضع في زمننا بعض الأيديولوجيّات كالماركسيّة أو اللينينيّة أو الاشتراكيّة أو الفاشية أو غيرها من النظم. وضع يسوع المسيح نفسه فقط: حياته، شخصه، آلامه صلبه، موته، قيامته المجيدة. لم يؤسّس يسوع المسيح نظامًا اقتصاديًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا. أسّس الربّ يسوع كنیسته التي هي جسده الحيّ، وهذه الكنيسة تستمدّ نظامها وحياتها وروحها كلّها منه هو رأسها. بالطبع علّم الربّ يسوع تلاميذه، بالطبع قال لهم اصنعوا هذا ولا تصنعوا ذاك، بالطبع أعطى أفكارًا محددّة عن طبيعة الله وعن طبيعته هو وعن طبيعة الإنسان وشقائه وخلاصه ومصيره، وعن علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وعن مآل التاريخ كله، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلاً. لكنّ هذا كلّه ليس بالأمر الجوهري، لأن هذا كلّه مستمدّ، منحدر، منعكس من شخص المسيح ذاته.
لسنا إذاً أيها الأخوة أمام نظام فلسفي أو سياسي أو اجتماعي اسمه المسيحيّة. الشيء الذي يُطلق عليه إسم المسيحيّة قد يتمكّن من العيش تحت أي نظام فلسفي أو اجتماعي أو سياسي، شرط ألّا يكون مبدأ هذا النظام الأول إفناء المسيح وإبادته من الوجود.
وإذاً، إن كان في ما نسمّيه “العالم الحديث” أو “العصر” من تحديات لما نسمّيه كذلك “الإيمان المسيحي”، فالتحديات هي بالضبط ليسوع المسيح ذاته، للكنيسة، ذاتها للكتاب المقدس ذاته وللتراث الكنسي الحيّ المتراكم ذاته.
في اللحظة التي يُطرح فيها السؤال هكذا على وجهه الصحيح يتضح فورًا أن لا شيء يلائم العالم الحديث أكثر من يسوع المسيح وكنيسته وكتابه وتراثه.
إن السؤال: المسيحيّة: هل تلائم العالم الحديث؟ يفترض أن المسيح استشار العالم عندما جاء إليه، وأن العالم يستطيع أن يلبس المسيح اليوم ويخلعه غدًا كالرداء. الواقع أننا لسنا أمام اختيار. الواقع أن المسيح هنا وسيبقى، أرَضيَ العالم به أم لم يرضَ، ألاءم العالم أم لم يلائمه.
صار للمسيح وللكنيسة ألفا سنة على الأرض، والذي ثبت في الأرض ألفي سنة لا يُرعبه العالم مهما تحدّث.
وأطمئنكم أن الكنيسة باقية وستبقى ولن تقوى أبواب الجحيم عليها. الكنيسة التي اندثرت طوال حياتها على الأرض حتى الآن مئات الحكومات والدول، واندحرت أمامها مئات الثقافات والنظم وكان كلّ واحد منها يعتبر نفسه حديثاً ويتساءل: هل تلائمني المسيحيّة؟ إن الكنيسة الصخر هذه باقية وستبقى، وهي التي ستكيّف العالم الحديث وتطوّعه إرادة المسيح. إن العالم لا يستغني عن المسيح، لأن المسيح فيه بمحض إرادته وسيبقى فيه. الخيار الوحيد المفتوح أمام العالم هو فقط بين أن يلائم نفسه هو للمسيح فيخلص، وأن يتمرّد على المسيح فيهلك، كما هلكت مئات العوالم الحديثة قبله.
هاءنذا واقف على الباب أقرع، فإن سمع أحد صوتي وفتح الباب أدخل إليه وأتعشى معه وتعشى معي. من غلب فإني أوتيه أن يجلس معي على عرشي، كما غلبتُ أنا وجلست مع أبي على عرشه. مَن كان له أذنان فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (الرؤيا 3: 20 ـ 22).
حديثي الليلة إلى الشبان والشابات. أريد أن أستحثهم على سماع دعوة المسيح إلى خدمة كنيسته.
أصلّي بحرارة وبساطة تامتين كي يخرج من هذه الكنيسة هذه الليلة عشرون شاباً وشابة مستجيبين لدعوة المسيح.
أفخر بأن لي أخويْن استجابا لدعوة المسيح بأن كرّسا حياتهما وأعطيا ما لهما لخدمة كنسيته. وأؤكد لكم أني لو كنت الآن في بداية حياتي لفعلت الشيء نفسه.
أيها الشبان والشابات! ماذا تطلبون من الحياة؟ تطلبون لا شك السعادة والفرح وملء النفس. قد تجدون هذه كلّها في العالم، في العمل المنتج، في خدمة الدولة، في المهن الحرّة، في الزواج وإنشاء العائلة. كلّ هذه أمور شريفة يباركها المسيح.
لكن هذه كلّها أمور فارغة إذا لم يكن المسيح في وسطها وحولها. وإذا اتبعتموها وكانت دعوتكم الانتماء إليها، فمع ذلك ستجدون أنفسكم يومًا بحاجة إلى كنيسة المسيح وخدماتها. فإذا شحّ عدد المدعوّين للالتحاق بالكنيسة وتكريس أنفسهم للمسيح فقط، فلن تجدوا مَن يخدمكم ويلبّي طلباتكم الروحيّة في الكنيسة عندما تلجؤون إليها.
إن شرط نجاحكم حتى في حياتكم العلمانيّة أن تكون الكنيسة حولكم مزدهرة.
توجد رهبنيات في لبنان كان لها أعظم الأثر في تأسيس لبنان وتوطيده سياسيًا وثقافيًا وروحيًا. واليوم أخذ عدد المدعوّين إلى الانتماء إليها يشحّ. هذه كارثة على الكنيسة وعلى لبنان. وصلاتي اليوم ومناشدتي أن يرحمنا الله كي يقدّم بعض الشبان والشابات من حياتهم لخدمة المسيح في الكنيسة.
تطلبون أيها الشبان والشابات الفرح والسعادة وملء الحياة. هذه كلّها تجدونها لا شك في الحياة الحرّة بالرغم من صعوباتها هذه الأيام. ولكن هذه كلّها وأكثر تجدونها كذلك في الحياة المكرّسة للمسيح.
ماذا تجدون في هذه الحياة؟
١ـ القرب من المسيح.
2 ـ إغناء الكنيسة بالموسيقى والخدمة والإبداع – أعظم تراث.
3 ـ تخدمون لبنان – لأن لبنان مدين إلى حد بعيد للكنيسة.
4 ـ تعيشون بالقرب من القديسين – بتأمل حياتهم والاقتداء بهم. ومّن يدري، قد يكون في عناية الله أن يصير أحدكم يومًا ما قديسًا – فيزدان فلك الكنيسة ويرصّع تاجها به إلى الأبد. وهكذا تخلدون. والقديسون أعظم رتل وأعظم سحابة شهادة في التاريخ. أن تكونوا منهم وفيهم وبالقرب منهم، لا شيء أعظم من هذا ولا أفرح.
الواحد منكم بدو يسافر عا كندا أو عا أستراليا لطلب العيش. ما تسافروا من لبنان لكن سافروا من بيتكم إلى رهبانية من الرهبانيات وادخلوا وسيفسح لكم المستقبل المجال للسفر إلى أقاصي المعمور، ولكن بخدمة المسيح الذي تجدونه في كنيسته حيث تذهبون).
5 ـ تخدمون الرعيّة في تعميدهم وتثبيتهم والاستماع إلى اعترافاتهم ومناولتهم جسد المسيح والعيش معهم وبرفقتهم. أي عيش أجمل وأفرح وأعمق وأبقى من أن تكونوا في المسيح بالقرب من أهلكم وإخوانكم وداخل وطنكم في جميع حاجات الحياة ومتطلّباتها؟
(لا أظن بلدًا في العالم يعني فيه الانتماء إلى الكنيسة، وخصوصًا إلى رهبانياتها، ما يعنيه هنا في لبنان، لأن لبنان مندمج تاريخه وجزء كبير من تراثه في تاريخ الكنيسة وتراثها. أين لبنان لولا كهنته ونسّاكه؟ أين لبنان لولا فعل الكنيسة فيه؟ لذلك، تجدون يا إخوتي بيتاً لكم ومرتعًا رحبًا للعمل الروحي والثقافي والاجتماعي في الكنيسة. نريد مَعالِفَةً آخرين كالأب معلوف الذي ترجم توما إلى العربية، نريد نسّاكاً متأمّلين كالطوباوي شربل (كان القديس شربل ما يزال طوباويًا)، نريد قديسين جددًا كمار مارون وأفرام والذهبيّ الفم والدمشقيّ، نريد علماء فطاحل كشيخو ولامانس، نريد بطلات روح جديدات كهؤلاء العظيمات العاملات في شتى الرهبانيّات النسائيّة. كل هذه وغيرها آفاق جديدة مفتوحة أمامكم أيها الشبان والشابات. أستحثكم على ولوجها. وإذا ولجتموها بسبب دعوتي هذه صدّقوني إنكم ستترحّمون عليّ).
6- لا تجدون صداقات باقية بين أترابكم هنا في لبنان وحسب، بل بين رهبانيّات الكنيسة المنتشرة في شتى أرجاء الأرض. تجدون إخوانًا وأخوات لكم حيث تحلّون. هذا ما عناه المسيح بأنكم تكسبون مئات ما تهجّرون من إخوتكم وآبائكم من إخوة وآباء في المسيح بالعالم كلّه. المسيح ينتظركم. العذراء مريم تنتظركم. الكنيسة تنتظركم. القديسون يدعونكم. إخوانكم المحتاجون روحيًا وثقافياً ينتظرونكم. لبنان ينتظركم. لا أعرف حاجة ينتظر تلبيتها هذا القدر من الشهود كحاجة الكنيسة، وخصوصًا بعض الرهبانيات، إليكم.
تصوّروا معي مغزى أن يبرهن لبنان أن فيه اليوم نهضة وتجددًا روحيين لا يقلّان عمقاً عما في أي بلد بالعالم.
المسيح المصلوب يجب أن يناديكم كي تأتي استجابتكم له أصيلة صادقة.
إن تألّمكم النفسي ووحدتكم الروحيّة هما اللذان يجب أن يدفعاكم بإخلاص إلى الالتحاق بالمسيح والبقاء بقربه. وجزاؤكم سيكون الفرح الذي لا يوصف والحياة الأبدية. جزاؤكم سيكون الوجود الدائم بالقرب من المسيح. وليت بإمكاني أن أصوّر لكم كم أحسدكم على هذا الجزاء!
إنكم تطلبون الحياة. أؤكد لكم أنكم تجدونها في المسيح.
إنكم تطلبون الخلاص، أؤكد لكم أنكم تجدونه في الكنيسة.
إنكم تطلبون الأمان، أؤكد لكم أنكم تجدونه في الكنيسة.
إنكم تطلبون وضعًا يمكّنكم من وزن الأشياء، والحكم عليها من شرفة الله. أؤكد لكم أن القديسين وحدهم هم في هذا الوضع الموازن الحاكم الصائب. وهذا ما عناه الرسول بولس عندما شدد على أن القديسين سيدينون العالم. فاطلبوا إذاً أن تكونوا في صفوفهم.
إنكم تتوقون إلى خدمة الآخرين. أؤكد لكم أن الخدمة الحقيقية الباقية التي لا أثر للباطل فيها هي الخدمة النابعة من المسيح.
إنكم تطلبون الاحترام. أؤكد لكم أن الاحترام الهادئ المحتشم الذي ينعم به خدام المسيح، حتى في هذا العصر الذي تفشّى فيه الإلحاد، لا يضارعه أي احترام آخر لأي فئة أخرى من البشر. ويكفيكم احترام الكنيسة إياكم واحترام المؤمنين الذين يُعدّون بمئات الملايين.
في مقابل ذلك كلّه تجدون الاضطهاد، خصوصًا ممن أعمى قلوبهم الشيطان، وتجدون أنفسكم في كفاح دائم في حياتكم مع أنفسكم ومع الشيطان الذي سيجرّبكم ويوسوس في نفوسكم كلّ يوم. ولكن أن تَخبُروا الشيطان وتجاربه لنعمة كبرى تزيد من عمق حياتكم وتعرّفكم بأعماق الشيطان وبأعماق نعمة الله وقوته اللتين تفوقان كلّ ما يملكه الشيطان من وسوسات وجيل.
شارل مالك ـ من كتاب “به كان كل شيء” شهادة مؤمن